ولماذا؟ هل أنا مجنون؟
عجيب سؤالك!... أتُراني مختل عقلياً؟
الحمد لله، أنا لا أعاني أي إضطرابات عصبية أو نفسية.
قد لا تخرج الإجابات عن هذه الثلاث، تصاحبها ملامح الشجب والإستنكار والدهشة، حين توجه مثل هذا السؤال إلى شخصٍ ما في أيٍ من مجتمعاتنا العربية.
فلقد ترسخ فينا زمناً أن الطب النفسي وقف وحجر على المرضى فقط وليس للأسوياء فيه نصيب، هذا حين نعثر على أسوياء خلص في هذا العصر، فلعله قد آن الأوان أن نقف بشجاعة ونواجه أنفسنا ونعترف أن الظروف المحيطة بأمتنا اليوم، وعلى كافة الأصعدة، الإجتماعية والثقافية، والإقتصادية، والإعلامية، بل والسياسية، قد تركت فينا آثاراً ومارست ألوان من التشويه على سلامة الفطر، وتركت في شخصية المواطن العربي حفراً دفنت فيها نفايات أفكار خاطئة ومعتقدات سلبية ورثناها جيلاً بعد جيل، حين تربت أجيال، وما زالت، في أجواء القهر والإستبداد والقمع وأحادية الرأي وإعلاء الفردية والإنتهازية...الخ.
والأمراض النفسية هناك إحتمال، وكما يشير أهل الذكر في هذا الفن، إلى إمكانية توارثها، لذا لا عجب أن ترى إنعكاسات ذلك داخل الأسرة العربية وهي النواة الأولى للمجتمع، من نرجسية زوج، إلى تسلط زوجة، إستبداد أب، قهر من الأم، عدم مبالاة وسلبية من الأبناء، ما عمت به البلوى من ثنائية الزوجة والحبيبة!! غياب الولاية كقيمة ومعنى في العلاقة بين الرجل والمرأة وتسيد نظرية الذئب والنعجة، وهذه خاصة إنعكاس لما يروجه الإعلام اليوم من تسليع للمرأة مادياً جعلها تفقد الإحساس بذاتها...
حالات وشكاوى غريبة يصدق عليها قول عمر بن عبد العزيز يجد للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم من الفجور، وهنا، وبلا مجازفة، يمكن أن نضيف أيضاً ويجد لهم من العلاج في محاولة لطمأنة من يرى أن البعد الروحي وصلة العبد بربه ملجأً ومنجى يكفي ويوفي للوقاية من الوقوع في مثل هذه المشاكل، وهذا صحيح، وعليه يسقط الإدعاء بصحة البحث عن حل لها، إذ يُستغرب وقوع المشكلة أصلاً ممن يفترض تمتع الكثرة بهذا التوازن الروحي في حياتهم، غير أن واقع الأمر يؤكد في زمن طغت عليه المادة عكس ذلك، وأن هذه الكثرة تعاني فقراً شديداً في هذا الجانب الروحي والعاطفي، ومع تقصير الخطاب الديني في تطوير آلياته وتقديم نموذج مقنع لهذه الشريحة التي لا يصلح معها خطبة أو موعظة أو مطوية أو محاضرة... لكن يصلح لها ومعها بحواره الهادئ وإستيعابه وقدرته على التحليل فقيه النفس الذي يسمى في وقتنا الراهن بطبيب الأمراض النفسية، ليس جميعهم، فقط الذي أحب عمله الإنساني الرائع وإنطلق في عمله من قناعة لا يضع معها يوماً لافتة على باب عيادته ممنوع دخول الأسوياء!! صاحب الفهم وليس العلم فقط {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً}.
إن نشر ثقافة المعالج النفسي في مجتمعاتنا لهي من الضرورة بمكان اليوم، ووجود سجل نفسي بحالة الطفل النفسية ومراحل تطورها منذ نعومة أظفاره أو على الأقل عند التحاقه بمراحل التعليم الأولى وتحديد صفاته الشخصية وما أكثر الشخصيات التي يندمج معها وتلك التي يصعب عليه التوافق معها، وما الثغرات الموجودة في شخصيته وتحديد طرق علاجها أو الأمراض التي يعاني منها، لعل هذا أهم من السجل الصحي الذي يحوي الأمراض الجسدية وتاريخ الإصابة بها، فضرر المرض الجسدي في أغلب أحواله لازم، لا متعدٍ كالمرض النفسي الذي قد يؤدي إلى معاناة وخسائر في نطاق الأسرة، بل والمجتمع كله حين يؤثر سلباً على طاقات وقدرات كم تحتاجها مجتمعاتنا، فالإعاقة الجسدية قد تكون حافزاً وتحدياً للإضافة والتميز، في حين لا يتمكن صاحب الإعاقة النفسية من ذلك، ولهذا شواهد كثيرة من واقع الحياة.
ليس ترفاً أبداً حين نطالب كل شاب وخطيبته بالتوجه إلى المعالج النفسي تماماً مثل ما نطالبهم بإجراء فحوصات ما قبل الزواج، فالنفس ومع ممن تتفق وتختلف وما مميزاتها وسماتها وفهم الطرف الآخر لها، ليس بأقل أهمية من هذه الفحوصات والتحليلات المختبرية للجسد، فالسكن للنفس لا للجسد فقط، وممارسة المودة والرحمة لا تقع على عاتق الجسد وحده.
وكم راعى الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الجانب النفسي ومدى توافق الشخصيات حين إستشارته فاطمة بنت قيس وذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها فقال صلى الله عليه وسلم «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك -أي فقير- لا مال له إنكحي أسامة بن زيد» فكرهته ثم قال «إنكحي أسامة» فنكحته فجعل الله فيه خيرا وإغتبطت.
فمن لا يضع عصاه عن عاتقه فهو يتسم بالغلظة والجفاء، ولعل فاطمة كانت على درجة من رقة المشاعر والإحساس لا تتمكن معها من التعايش مع مثل هذه الشخصية، كيف لا وهي التي طلقت طلاقاً غيابياً من أبا عمرو بن حفص، ولعل هذا قد جرحها كثيراً، فراعي الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الجانب في شخصيتها وكان رحيماً شفيقاً بها حين قام بتعديل للمكان الذي أشار عليها به في البداية لتقضي عدتها في بيت أم شريك، فإستدرك بقوله: «تلك امرأة يغشاها أصحابي إعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» -صحيح مسلم 2/1114، صحيح مسلم بشرح النووي 10/94.
وذلك حتى تحصل على أكبر قدر من الإستقلال النفسي خلال فترة العدة بعيداً عن أي مؤثرات قد تدفعها لقرار خاطئ أو خوض تجربة تندفع نحوها لا شعورياً كنوع من التعويض كما يقع للكثير من المطلقات حين تنصت لمواساة أوتركن إلى تعزية في هذه الفترة الحساسة جداً من حياتها.
ولعل فقر معاوية لا تتوفر معه أجواء يمكنه من خلالها التعبير عن حبه وتقديره لها، فكم يصرف الإهتمام بلقمة العيش ذهن صاحبيه أن يبوح كلاهما بما يعتمل من مشاعر بداخله للإرهاق الشديد وإنشغال البال بهم النفقة والعيال، وكم تئن بيوت من هذه الشكوى في زماننا هذا.
ليس من الكماليات، بل من الضروريات أن يكون لكل أسرة المعالج النفسي الخاص بها، العارف بتاريخ هذه الأسرة منذ إستشارة الخطيبين له، ثم متابعته لهما، وللمراحل العمرية لذريتهما ليكون على إستعداد ومعرفة مسبقة بكيفية التعامل مع أي إشكال نفسي يقابل احد أفراد هذه الأسرة، والعمل على تطوير قدراتهم ومهاراتهم.
إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وتقدم مجتمعاتنا والمساهمة في النهوض بها واجب يقوم به المؤمن القوي في عقله ونفسه وجسده، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله، والصحة النفسية غاية من وسائلها نشر ثقافة العلاج النفسي، فهل يمكن أن يأتي يوم نرى مع بيانات البطاقة الشخصية أو العائلية أو الإقامة أو الهوية...، اسم ورقم وإيميل طبيبك النفسي؟
الكاتب: أ. غادة أحمد حسن.
المصدر: موقع المستشار.